سلطان العلماء في زماننا
كيف يعتذر الإنسان عن تقصيره في فهم الفوارق بين العلماء، ولهثه وراء الغث والثمين بلا رؤية واضحة بل بأعين مجهدة كليلة أحيانا، فقد كانت سفينة العلم تحمل لنا أسماء كثيرة (دعاة هنا وشيوخ هناك وأساتذة في الجامعات ومشاهير في المساجد والطرقات، وزاد التلفاز مساحة وأغرق ساحاتنا بأعداد وأسماء كثيرة من نماذج مختلفة أزهرية ودعوة سلفية، وأمنجية وفهلوية وشعوبية وجماعة إسلامية، وهيئة شرعية وفكرة إخوانية، وهذه بعض نماذجهم بالترتيب: (جمعة، والطيب، حسان، ويعقوب، برهامي ورسلان، معتز، وعمرو، جندي، ومبروك، نشأت والصغير، حجازي وعبد المقصود، حازم، وسلطان.... ألخ) فظننا أن كل من ركب السفينة وحمل اللقب نال شرف القرب من الله وحمل الأمانة، وقلنا مع ابن عساكر لحلوم العلماء مسمومة، وظنننا كما ظن: أن المنافقين قلة والخلاف بينهم لا يعدو أن يكون خلافا في الرأي وفارق في القريحة وتلك مواهب يهبها الله من شاء. وقليل منا من نفذت بصيرته إلى أن أكثرية من حمل الدعوة والعلم ليسوا إلا تجار دنيا.
لكنى تعلمنا جميعا والفصل لله وحده، بعد آلام رابعة والنهضة ودماء الحرس ورمسيس أن السفينة بها غث كثير، فقد ركبوا فيها عندما كانت نزهة خلوية، بجوار الشاطئ المزهر بزخارف الدنيا، فلما قرر ربانها تسيرها إلى الأعماق قفز منها كثير، ثم لما أخذت الأمواج تتلاطم مع السفينة هرب من بقى منهم إلا قليل، بل استنجد بالسحرة ليخرجوه من الطريق، مع أنه ظل عقودا يُفهمنا أن جل عمله هو محاربة السحر والسحرة، ثم اكتشفنا أنه واحد منهم، وفهمنا قوله تعالى: (وكثير منهم فاسقون) ثم تنبهنا أن الأمر جلل ورجونا لبعض القافزين النجاة سيرا مع قول النبي (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)، فصمتوا وصمتنا.
إلا أننا أدركنا بعد مرور أربعة أعوام من تلاطم سفينة الإسلام وثورات شباب الأمة مع كيانات العدو التي تتحكم فينا وفيها، أن الفسق انسلاخ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا) فانسلخ برهامي وجمعة علنا وشارك طيبنوس مع تواضروس في فلم (لا للأسلمة، نعم للتنصير).
ويأبي الله إلا أن يتم نوره وإلا لانزلقنا ورائهم. إما بترك ديننا، ظننا بأنهم قادة الأمة وهم أدري بمصلحتها، فنسير سيرهم ونرد مواردهم فنهلك كما هلكوا، وإما نكفرهم جميعا وربما حملنا السلاح ضدهم وضد غيرهم لكونهم خونة اشتروا الدنيا بدينهم وخدعونا في ديننا.
لكن سبحان من أبقي لنا بحكمته من عباده من يبصرنا بطريقنا ويوقفنا عند طريق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي كاد يذهب عنا بسببهم، فأعطنا القدوة لنثبت على الصراط المستقيم، حيث كان بالإمكان الانزلاق تبعا أو مخالفة لهؤلاء الدجالين؛ الذين حملوا الرسالة شكلا واشتروا بها ثمنا قليلا. فأبقت لنا يد الله الحانية ثلة قليلة كافية لتكون دليلا ومرشدا مثل القرضاوي والعودة في خارج البلاد، وعبد المقصود والصغير بعد الخروج من مصر، إلا أنهم جميعا لن يرقوا لنا كمرشدين أبطال لولا حازم وسلطان.
أما حازم فقد تطلع لما هو أكبر من العلم فجمع بين الفقه بالدين الفقه بالسياسية، وسجنه كسجن أسيادنا ممن أحسنوا التوجيه للأمة في الظلمات كالبصري وابن المسيب وابن جبير وابن تيمية والبنا وعودة وقطب. هو رجل من هذا الطراز الفريد الذي أضاء جنبات الأمة عندما أُطفئت شموعها وأشعل أمثال هؤلاء الرجال أجسادهم لتكون وسيلة لإنارة الشموع عند المراحل التالية، فيستضيئ بها المسلمون وغير المسلمين.
أما صلاح سلطان فكان لنا فوق هؤلاء جميعا ليس لكونه أكثر علما أو أعلى فهما، لكنه كان كالعز ابن عبد السلام سلطانا في تفرده بحمل الرسالة وإرساء قواعدها، فهو الأستاذ الجامعي الذي كان يكفيه أن يقول الحق في محاضراته وكتبه وبين طلابه وتلامذته، ليقال عنه أنه أعلم أهل الأرض. وأن يقف موقف أستاذنا (س وص وع..) مناصرا للقضية ولو كان كذلك لأخرجوه بكفالة وأبقوه بين مدرجات الجامعة يلقي دروسا مكررة وأفكارا مجزئه، لكنهم خبروه وعلموا أن خروجه سيشعل الدنيا نورا وسيحرك آلاف العلماء الساكتين؛ فلو بقي في مصر حرا لقاد الشباب قيادة ترهب أعداء الله والوطن، ولو خرج منها لدار في كل الأقطار موقظا ضمائر العلماء في بلاد العرب والعجم، لهذا أدركوا كما أدركنا خفة حركته، وكثرة نشاطه وسعية الدؤوب لإسقاط الباطل، فلهذا ولغيره سجنوه. وكان يمكنهم أن يكتفوا بسجنه، لكنهم راحوا يزايدوا في سجنه وإهانته بنارين؛ نار بعده عن أداء رسالته ونار القتل البطيء لأبنه الأثير، وهنا ترجل البطل يكتب لهم أنه بين نورين وليس بين ناريين.
وفهمنا من سلطان العلماء في زماننا أن العلم مواقف وليس مواعظ، وأن العلم وعي وليس رسم دارس، وأن للعلم أصداء رجولة وليس دموع نساء. فحرر في سجنه مقالات تسري في شباب الأمة كما يسري الدم في جسد الأحياء، وتذكرنا أن له في سورة الفجر والكهف منهجيات تفوق تفسير الرازي وتتجاوز ظلال قطب وخواطر الشعراوي، فإنها لمحات قائد وليست مجرد فكر ثاقب، وعلمنا أن له من الأعمال ما يفوق عمرة أربع مرات على الأقل، فهو أستاذ الشريعة الذي ساهم في انشاء أكثر من عشرة مؤسسات دعوية في الوطن العربي وخارجه منها: الجامعة الإسلامية الأمريكية، ومنها حركة أمناء الأقصى، ومنها مؤسسة بناء لإعداد العلماء التي كان يطمح من خلالها لإنارة الدنيا بعلماء الإسلام، في حين كان سلطان يعد منارات العلم من أبناء الأمة كان غيره يدعي ويروج أنه عالم الأمة الأوحد وشيخها الوحيد والذي لولاه لعم الجهل وضاعت الأمة! إضافة إلى ما سبق فقد شارك الدكتور صلاح في عشرات المجامع الفقهية والعلمية أهمها اتحاد علماء المسلمين ومجلس الإفتاء الأوربي وعضوية مجلس الأمناء لعلماء أهل السنة وغيرها الكثير دون أن يدعي تفردا أو يطلب مدحا وتمجيدا، فأحببنا طريقته في بذل الوسع دون كلل أو ملل، ورغم نقدنا له مرات بعد الثورة وفي ميادين الكلام عبر الشاشات. لكن يبدو أن المتكلمين أمثالنا لا يعرفون جيدا قيمة أرباب العمل.
وهنا بعض مواقف مع سلطان العلماء سنجعلها يوما في كتاب عن السلطان وليس عن أستاذنا الذي يكبرنا فقط بعقد من الزمان، ففي الدار-هي أحب كلمة على لسانه عن دار العلوم- عام 1993 كان القاء الأول؛ شاب صعيدي يعمل معيدا بدار علوم المنيا يلتقي بأول منوفي في حياته، وبعد ساعة من اللقاء يقول له السلطان: ما هي مهمتك، فيتلعثم: طلب علم، معلوم، منهج، رسالة جامعية، فيأخذه السلطان ويدله على ما يريد وهو مكتب سيدنا العلامة (حسن الشافعي) أطال الله في عمره، ثم يذكره بأن هذا طريق الدنيا. أما الآخرة فلها طريق أخر ويقول له مباشرة هناك معسكر إيماني تربوي فهل لك في مثله، فلا رد ولا فهم، لكن بعد خمس سنوات يسافر الشاب إلى عمان تلبية لدعوة مفتيها الشيخ الخليلي، فيعرف هناك أن السلطان أستاذ في جامعة مسقط، فيرسل له سائقا يقوده إلى منزله فلا يجد غير بنت وابن في مرحلة الاعدادية يقدمان له أشهي الأطعمة، وعند سؤالي عن والدهما قالا سيعود قريبا يا عماه، فجاء قبيل المغرب وخرجنا إلى اللقاء في جنبات مسقط العامرة نتلو سورة الأنعام ودارت خواطره التي لا تنسي فلم تكن خواطر بل كانت أسس طريق ونبراس حياة.
فمن يومها وهو المثل والقدوة بعد قدوتنا جميعا صلى الله عليه وسلم، وباعدت الأيام بيننا وجاءت الثورة فالتقينا، لكن أفكارنا لم تتباعد، غير أن الله قسم حظوظ خلقه من العمل (كل ميسر لما خلق له)، وقد يسر الله لصلاح سلطان طريقا لن يبذه فيه أحد، فهو سلطان العلماء ونحن بتقصيرنا اكتفينا أن نحبو في رحاب هذه الدعوة المباركة، والرجاء في الله عظيم أن يحفظ سلطان العلماء ويعيده إلى تلامذته وجهاده حتى تنتصر الدعوة وتأخذ طريقها وحينها سيكثر العلماء وسيبايعون صلاح سلطانا لهم يحكون مواقفه وبطولاته.
*د. محمود مسعود أستاذ الفكر الإسلامي بدار العلوم