[size=48][size=48]من الآن لن تكون هناك مناهج دراسية في فنلندا.. فما الذي سيتعلمه الطالب؟![/size][/size]
18 يناير,2017
عندما سُئلت وزيرة التعليم الفنلندية تولا هاتانين، عن كيفية إحداث نهضة شاملة ببلادها ووضع بلادها في مكان متقدم على خارطة المنافسة العالمية، قالت: «إنها مسألة بقاء، وليس لها من سبيل غير الاستثمار في التعليم والتدريب».
ربما لا تسمع اسم فنلندا كثيرًا في ساحات السياسة، وأزمات المنطقة في الشرق الأوسط، غير أن تلك الدولة أنهكتها الصراعات السياسية والحروب العالمية قديمًا، ولكن الدولة الإسكندنافية الصغيرة ركزت اهتماماتها بشكل أساسي على تطوير نظامها التعليمي، فتحولت من بلد اقتصاده قائم على الزراعة إلى حد كبير، إلى بلد ذي اقتصاد معرفي متقدم، من هنا لا غرابة إن كثُر الحُجّاج لفنلندا للاطّلاع والتعلّم من تجربتها الفريدة!
حيث تشير الدراسات والبحوث في العقدين الأخيرين -من هذا القرن- إلى القفزة النوعيّة التي حقّقها نظام التعليم في فنلندا، فنتائج الامتحانات الدوليّة تضع فنلندا في طليعة الدول في التحصيل، ففي استطلاع مجلة نيوزويك لعام 2010، ورد أنّ فنلندا تعد «أفضل دولة في العالم من حيث الصحة والاقتصاد والتعليم والبيئة السياسيّة ونوعيّة الحياة، كما تعد فنلندا ثاني أكثر البلدان استقرارًا في العالم»، ناهيك عن كونها أفضل دولة في مؤشر التعليم وفقًا لتقرير التنافسية العالمية حتى الآن.
لم يتوقف وهج الثورة التعليمية في فنلندا، فلم يكفها أن تكون أفضل دول العالم في كفاءة النظام التربوي وفقـًا لآخر تقييمين لعامي 2003 و2006 تم إجراؤهما من قبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؛ حيث أشارت التقييمات العالمية إلى أن نسبة التهرب من التعليم الإجباري انخفضت إلى 0.5% فقط. كما أن نسبة الرسوب في الصف تساوي 2% فقط. وفي مجال البحث العلمي، حصلت فنلندا عام 2005 على المرتبة الرابعة من حيث نصيب الفرد من المنشورات العلمية في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وفي عام 2007 سجلت 1801 براءة اختراع. حيث يريد المسؤولون عن التعليم إلغاء المواد الدراسية: من الآن لن تكون هناك دروس في الفيزياء والحساب والأدب والتاريخ والجغرافيا. فكيف سيتلعم طلابها؟
الرؤية الفلسفية لنظام التعليم في فنلندا
تؤكّد الرؤية التربويّة في فنلندا على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المتعلّمين، فالمدارس حكوميّة مدعومة ومموّلة من الدولة، ولا فرق في المستوى بين مدارس المدن أو الأحياء الميسورة والمدارس في مجمّعات قرويّة أو أحياء شعبيّة. وحظّ المدارس الخاصّة في فنلندا شبه معدوم، ولا تشجّع الدولة على فتح مثل هذه المدارس؛ فدستور البلاد يضمن حقّ التعليم المجانيّ للجميع وفي كلّ المراحل، ولا فصل أو عزلة للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصّة، بل يتعلّمون مع بقية الطلاب، ويحظون كغيرهم بالعناية والاهتمام.
كما يحظى المعلّمون في فنلندا بمكانة مرموقة قد توازي مكانة الأطباء والمحامين – وربّما تزيد أحيانًا – فالمعلم لا يصبح مؤهلًا لمنصبه سواء في مدارس المرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية إلا إذا كان حاصلاً على درجة الماجستير، فالمعلم المرتقب يجب أن تكون درجاته جيدة جدًا وعليه أن يكافح من أجل أن يصبح معلمًا، ويعزى ارتفاع مستوى الأداء في مجال التدريس إلى الإجلال الذي تحظى به هذه المهنة من جهة وإلى الرواتب المرتفعة التي قد تفوق معدل «المنظمة الدولية للتعاون الاقتصادي والتنمية OECD» من جهة أخرى.
كما أن رؤية نظام التعليم في فنلندا تؤكّد على: «مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع المتعلّمين، وحقّ التعليم المجانيّ للجميع وفي كلّ المراحل»؛ فمن هنا يمكن أن نستخلص أنّ الطالب هو محور العمليّة التعليميّة التعلّميّة في فنلندا، وهدف التعليم هو إعداد المتعلّم للحياة بإكسابه المهارات والمعارف والقيم التي تمكنّه من المساهمة في تقدّم وطنه ورفاهيته واقتصاده، وليحقّق نوعيّة حياة جيّدة مُرضية له ولأسرته وأبناء وطنه.
وقد حرص نظام التعليم في فنلندا على مراعاة حاجات وميول وقدرات المتعلّمين منذ طفولتهم الغضّة المبكّرة. وقد نلمس ذلك في رياض الأطفال التي سعت لتوفير أجواء اللعب والتسلية والمتعة والحرية للصغار، فلا مضامين ملزمة حتّى سنّ السابعة وبداية المرحلة الأساسيّة للتعليم التي يبدأ فيها المتعلّمون عمليّة التعلّم. حتى وصلت فنلندا إلى مرحلة إلغاء المواد الدراسية: من الآن لن تكون هناك دروس في الفيزياء والحساب والأدب والتاريخ والجغرافيا. ليصبح هناك شعار أكثر مرونة وأكثر ابتكارًا تحت مسمى «إنّ كلَّ تلميذٍ يعتبرُ مُهمًّا». فكيف يعتبر التلميذ مهمًا بلا مناهج دراسية؟
الرؤية التقدمية لنظام التعليم في فنلندا
يشرح مارجو كيلونين، مدير قسم التعليم في هلسنكي كيفية تعليم الطالب بدون مناهج محددة فيقول: إن هناك مدارس تتبع النظام القديم، الذي كان معمولاً به منذ عام 1900م، لكن الاحتياجات تغيرت الآن، ويتحتم علينا إنشاء نظام يناسب القرن الحادي والعشرين؛ فبدلًا من دراسة المواد بشكل منفصل، فسيدرس الطلاب الأحداث والظواهر من جوانب متعددة، حيث سيتم التركيز على موضوع معين من خلاله يمكن للطالب أن يحصل على مجموعة من المعلومات المرتبطة بعدة مواد في الوقت نفسه.
فإذا كان الموضوع حول كيفية تقديم الخدمات الفندقية مثلاً، سيتضمن معلومات عن الحساب واللغات ومهارات التواصل، وإذا كان عن الاتحاد الأوروبي سيتضمن معلومات عن التاريخ والاقتصاد والجغرافيا واللغات. ويُطبق هذا النظام على الصفوف العليا، بداية من الطلاب في عمر 16 عامًا. وقد أبدى حوالي 70% من المعلمين في هلسنكي رغبتهم بالفعل في معرفة كيفية تقديم المعلومات بهذه الطريقة، والحصول على رواتب أعلى، وسيتم تجديد النظام بالكامل بحلول العام 2020م.
ووفقـًا لهذه الفكرة سيكون لدى الطالب إمكانية اختيار الموضوع أو الظاهرة التي توافق أفكاره واتجاهاته في الحياة، وبهذه الطريقة لن يكون على المراهقين مذاكرة مسارات كاملة في الفيزياء أو الكيمياء، ولن يطرحوا الأسئلة الوجودية مثل «لماذا أذاكر هذا؟ أو لماذا أحتاج لمعرفة هذه الأمور؟». فما الركائز الأساسية لذلك المنهج الجديد؟
أولًا: تطبيق نظرية الذكاءات المتعددة Multiple Intelligences
ترجع تلك النظرية إلى «هاورد جاردنر» وقد استمد جاردنر نظريته من ملاحظاته للأفراد الذين يتمتعون بقدرات عقلية خارقة في بعض المجالات، لكنهم لا يحصلون في اختبار الذكاء إلا على درجات متوسطة أو دونها، مما جعله يعتقد أن الذكاء مؤلف من كثير من القدرات المنفصلة والتي يقوم كل منها بعمله مستقلاً استقلالاً نسبيًا عن الآخر. و ترى النظرية أن الناس يملكون أنماطـًا فريدة من نقاط القوة والضعف في القدرة العقلية.
تنطلق نظرية الذكاءات المتعددة من مسلمة مفادها أن كل الأطفال يولدون ولديهم كفاءات ذهنية متعددة منها ما هو ضعيف ومنها ما هو قوي. ومن شأن التربية الفعالة أن تنمي ما لدى المتعلم من كفاءات ضعيفة وتعمل في الوقت نفسه على زيادة تنمية ما هو قوي لديه. أي أن هذه النظرية تتجنب ربط الكفاءات الذهنية بالعوامل الوراثية التي تسلب كل إرادة للتربية. وترفض هذه النظرية الاختبارات التقليدية للذكاء لأنها لا تنصف ذكاء الشخص فهي تركز على جوانب معينة فقط من الذكاء.
وبالتالي يتم تعريف الذكاء باعتباره الكفاءة أو القدرة على حل المشكلات أو إنتاج أشياء جديدة، ذات قيمة في ثقافةٍ ما أو مجتمع ما من المجتمعات، إن كل الكفاءات والقدرات التي يظهرها هؤلاء في حياتهم وعملهم تعد بدون شك شكلاً من أشكال الذكاء الذي لا يقتصر على المهارات اللغوية أو الرياضيات والمنطق، التي طالما مجدتها اختبارات المعامل العقلي، وعلى هذا الأساس، فإن نظرية الذكاءات المتعددة تقف موقفًا خاصًا من اختبارات الذكاء، التي طالما مجدت وقامت بإصدار أحكام بخصوص الطلاب ومستقبلهم الدراسي.
ثانيًا: الإبداع في التعليم
منذ ما يقارب عشر سنوات، وخلال حديثه على موقع TED، أشار كين روبنسون Ken Robinson إلى نقطة مهمة مفادها أن معظم الطلاب الذين يدرسون في الفصول الدراسية اليوم، سيلتحقون مستقبلا بأسواق العمل لا يمكن لأحد أن يتصور كيف ستكون.
ما أشار إليه كين روبنسون أثار انتباه المسؤولين عن التعليم في فنلندا، فالمدارس لا تعلم الطالب مهارات التفكير مثل النقد والمنطق والإبداع والتفكير العملي، ولا تعلمه كيف يخطط لنفسه ويستغل وقته، بل تكتفي بتلقينه بعض المعلومات والنصائح التي ينساها فور خروجه من الفصل. و بصيغة أخرى فهي لا تؤهله لمواجهة المستقبل الذي لا يعلم عنه شيئًا، بل تكتفي بتلقينه بعض المهارات والمعارف الجامدة، والتي وإن كانت مفيدة في عالم اليوم، فهي لن تكون بالضرورة كذلك في عالم الغد. يمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك والقول إن المدارس قد تقتل الإبداع، فخلال استطلاع للرأي أجري خلال فعاليات الموتمر العالمي للابتكار في التعليم 2014، عبر 66% من الحاضرين عن إيمانهم بأن المدارس فعلًا تقتل الإبداع، في مقابل 33% فقط نفوا التهمة عن هذه الأخيرة.
الإبداع إذن هو القدرة على التعامل مع الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة، هو القدرة على الانشقاق من التسلسل العادي في التفكير إلى مخالفة كلية. وهو بهذا يعتد مهارة لا بد من التسلح بها لمواجهة المستقبل والتكيف مع متغيراته.
تعد المساواة والإبداع الكلمتين الأكثر أهمية في التعليم الفنلندي، الأمر الذي قادها لتكون ثاني دولة على مستوى العالم من حيث الاستقرار السياسي والاقتصادي. ألم يكف ذلك ليسير العرب على النهج التعليمي نفسه الذي تتبعه فنلندا؟!