مرسى والعودة إلى الجذور
فراج إسماعيل 19مارس 2013
04:57 PM
ثلاث رحلات لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لم تنل حظها من الأضواء لانشغال الشارع بالإضرابات والاعتصامات ورماة الحجارة والمولوتوف. إنها في الواقع رحلات استثنائية وتفكير إبداعي لتطوير علاقات مصر الخارجية وتحويلها من رد الفعل واستجداء عواصم كبرى إلى توازن ورباط مع اقتصاديات بازغة تتقدم بسرعة مذهلة لتأخذ مكانة بارزة عالميًا.
للحق فإن اتجاهات محمد مرسي الخارجية لم يفطن إليها عمرو موسى بخبراته الكبيرة طيلة عقد من الزمان قضاه على رأس الدبلوماسية المصرية. على العكس أمعن موسى في تجريف علاقات مصر الأفريقية وهي قارتنا الأم حتى كادت أن تقطع عنا ماء النيل الخالد، ولم يُقم شعرة مع المحيط الإسلامي والأسيوي، وفاته في حينه الانتباه لأهمية أن يولي نظره ناحية آسيا الوسطى فسبقتنا إسرائيل وإيران إلى هناك، وقد رأيت بعيني في التسعينيات مشروعات زراعية إسرائيلية ضخمة في سمرقند وهي منطقة تابعة لأوزبكستان، وأخرى ثقافية واقتصادية وصناعية إيرانية في قزاقستان وطاجيكستان، عدا علاقاتها التاريخية والدينية والثقافية بجمهورية أذربيجان، وكل تلك الجمهوريات السابقة كانت تنضوي تحت الاتحاد السوفياتي قبل تفككه وقد زرتها كلها في ذلك الوقت، وتجولت بين مزارعها الواسعة ومصانعها التي يمكنها أن تقدم بدائل رخيصة عن وارداتنا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
لكننا جلسنا في الحلقة العربية الضيقة التي لم تر في تلك البلدان سوى الفتيات الروسيات والأوكرانيات الشقراوات، فكانت هذه وارداتنا للأسف. جئن براقصات يقدمن عروض الرقص الشرقي في كباريهات شارع الهرم والفنادق والأندية الليلية. وحتى الصين العملاقة صناعيًا لم نر فيها سوى فوانيس رمضان التي كنا نصنعها بأنفسنا، وعندما تطور تفكيرنا عنها قليلًا استوردنا سجادات الصلاة!
مرسي ذهب سلفًا إلى الصين وهي الإمبراطورية القادمة بسرعة لقيادة العالم صناعيًا واقتصاديًا، وتهدد صناعاتها حاليًا الولايات المتحدة والغرب. ثم فاجأنا في عز الأزمات الأمنية المتلاحقة بفعل ترصد المعارضة وغطائها السياسي للعنف، بالتوجه إلى إسلام آباد والهند، في زيارتين هما الأولى من نوعهما منذ الستينيات.
إحقاقًا للحق فقد كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر سباقًا في الاتجاه إلى تلك الدول وغيرها ممن أخرجته من أزمات كبرى عندما حاصرته الولايات المتحدة متحالفة مع إنجلترا وفرنسا وأوقفت تسليح جيشنا، فلا أحد ينسى تشيكوسلوفاكيا وصفقة السلاح التشيكي - انقسمت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو إلى تشيكيا وسلوفاكيا - ولا تمح من الذاكرة يوغسلافيا والعلاقة الحميمة التي ربطتها وزعيمها جوزيف بروز تيتو بمصر وعبد الناصر، وقد انقسمت حاليًا إلى صربيا، والبوسنة والهرسك، وكرواتيا، ومقدونيا، وكوسوفو.
تيتو مع الزعيم الهندي الأشهر نهرو وعبد الناصر كان الثلاثي المحرك لدول عدم الانحياز أو دول الحياد الإيجابي التي عبرت في الأساس عن رغبة في التنمية والاستقلال الحقيقي عن الدولتين العظميين وقتها، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والتركيز على القضايا الاقتصادية.
تجربة الهند بقيادة نهرو جديرة بالتعلم، فقد وحد مجموعة كبيرة من الأمم مختلفة اللغات والعقائد ومتنوعة الثقافات إلى دولة واحدة عصرية ديمقراطية ليبرالية متقدمة زراعيًا وصناعيًا.
وقد ظلت مصر على علاقة قوية بها، إلى أن بددها السادات باتجاهه الكلي ناحية واشنطن والعواصم الغربية. كان أبسط شخص أمي في قرى مصر يعرف عز المعرفة أنديرا غاندي أبرز رؤساء حكومات الهند، وكان يضرب بها المثل للشخصيات القوية من النساء المصريات، حتى الزوج الريفي كان يقول لزوجته بسخرية إذا أحس منها اعتزازًا وشموخًا "كأنك أنديرا غاندي"!
باكستان دولة إسلامية تشكل حلقة مهمة في محيطنا الإسلامي، لديها مشاكلها الكثيرة ولكنها مع ذلك بزغت في مجال الصناعة العسكرية. لا أريد هنا أن أربط ذلك بوجود وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي ضمن الوفد المرافق لمرسي، فالهند أيضًا متقدمة في الصناعات العسكرية والثقيلة، لكنها تحوز واحدًا من أكبر أودية السيلكون في العالم وأرخصها تكلفة على الإطلاق ويقع في مدينة "بنجالور" التي تسمى أيضًا "جاردن سيتي"، التي يوجد فيها عشرات الآلاف المهندسين المتخصصين في مجال تقنية المعلومات.
وتقدمت الهند تقدمًا مبهرًا في مجالات الكمبيوتر والمنتجات الرقمية والبرمجيات والفضاء والاتصالات ولديها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمحاصيل المتنوعة التي تقل تكلفتها عن مثيلتها في دول الغرب، فالعنصر البشري هناك رخيص جدًا، وهو العنصر الذي شق الطرق وبنى الأبراج والمولات التجارية الفارهة في دول خليجية وحولها إلى أجزاء من أوروبا.
أغلبنا لا يعرف عن الهند سوى الشاي، ربما لأن الذاكرة تحفظ شاي "البنت" الهندي الرخيص الذي كان آباؤنا وأجدادنا يصرفونه شهريًا على بطاقة التموين في عهد عبد الناصر وجزء من عهد السادات.
أما الرحلة الثالثة فقد كانت سابقة لرحلتي مرسي، وهي التي قام بها رئيس الوزراء هشام قنديل إلى جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان. كان مؤلمًا أن تتوجه الدول البعيدة إلى الاستثمار والمشاركة في دولة شقيقة معنا في حوض النيل، فيما نحن في عهد مبارك مغيبون عن محيطنا القريب.
إنها رحلات العودة إلى الجذور في علاقاتنا الخارجية