هذا هو البرادعي : الجزء السابع
عن خبراته في نيويورك:
لقد فتّحت نيويورك عينيّ. فجأة انتقلت من حياة كنت فيها في حمى الوالدين والأسرة، أتمتع برعايتهما، إلى شخص كان عليه أن يكون مستقلا تماما، له شقته الخاصة، وعليه أن يدفع فواتيره ويكسب عيشه. لقد دخلت إلى بوتقة الانصهار حيث كل الآخرين أناس مختلفون، يتكلمون لغات مختلفة، من أعراق مختلفة. ولقد كان ذلك عظيما بالنسبة لي. أن تتعرض للإثارة بمقابلة أناس من كل مكان، وأن تكون عرضة لكل شيء... من "البيسبول" إلى "الأوبرا".
[...]
ولقد كنت عَزَبًا في ذلك الوقت. وكان يمكنك وقتها قضاء وقتك كله في الخروج. وعندئذ بالطبع، اقتطعت من الزمن ثلاث سنوات وذهبت إلى جامعة نيويورك لأدرس للدكتوراه.
[...]
لقد حصلت على إجازة كاملة (من الخدمة في الخارجية المصرية) وذهبت لأعيش في قرية "جرينتش" وكانت تلك السنوات الثلاث أحلى سنوات عمري، في ظني.
[...]
ولكن من وجهة نظري فإن أفضل جزء في نيويورك، الجزء الأكثر إنسانية في نيويورك، هو وجود الفنانين، والمثقفين، والكتاب والطلبة. فأنت تذهب إلى البار الأيرلندي القريب منك، وتتكلم مع الناس. ولقد كان ذلك محببا إلى النفس بطريقة مطلقة. لقد كانت نيويورك بالنسبة لي عالما مصغّرًا بالنسبة إلى ما أفعله الآن. فأنت تتعامل مع أناس مختلفين من مختلف الأعمار، وتتعلم من ذلك كيف تتكامل وتندمج.
[...]
وعن دوره:
لقد قال شخص ما، في حفل غداء في الأسبوع المنصرم، قال شيئا أحببته عن هذه المسألة: هناك اهتمام قومي شديد، لكن دوري ودور وكالة الطاقة الذرية هو العمل على التأكد من أن الكنيسة مستمرة في الوجود بمركز القرية. ولقد فكرت في أن هذه طريقة جيدة جدا لوصف ما نقوم به من عمل. نحن نحتاج إلى العمل على التأكد من أن الكنيسة مستمرة في الوجود بمركز القرية، بمعنى، أنه يجب أن نطبق القواعد. يجب عليك أن تكون عادلا، وموضوعيا، ولطيفا، وتأكد من أن كل شيء يسير في اتجاهه الصحيح ولا يميل في هذا الاتجاه أو ذاك. لقد كان من واجبي أن أذكر الناس بالأشياء التي لا يحبون سماعها. ولكنّي لا أنتقي المعارك. لأن وظيفتي هي أن أضيف إلى المسألة وجود "بابا لا ديني"، إن شئت التعبير، كما يقول السكرتير العام، وأظن أن هذا ينطبق عليّ. يتحتم علينا أن نذكّر الناس بمنظومة القيم التي يشتركون فيها جميعا. وعليّ أيضا بصدق أن أتأكد من أننا لن ينتهي بنا الحال وكل منا يسعى لقتل الآخرين. فإذا لم يعجبهم في بعض الأحيان ما أقوله، وظنوا أنني أنتقي معركة ما، فأنا لست كذلك. وإذا لم يقوموا باتخاذ هذه القرارات، فإنني سأكون سعيدا، وسأستمتع بوقتي بالعودة إلى البيت والاستمتاع بلعب "الجولف". وأنا لست منغلقا بهذا الخصوص، ولكن هذا الوضع يجعلني أفهم أنه يجب علي أن أشرح المسألة أكثر لتصبح أوضح. ولكنّي أعلم أيضا أنني لن أتمكن من إقناع كل الناس، لأن هناك أناسا ينطلقون من وجهات نظر أيديولوجية مختلفة ... فإذا نظرت إلى جون بولتون وإلى شخصي، فإننا كلانا ننطلق من وجهات نظر أيديولوجية مختلفة تماما. فهو له معتقداته المجردة لكني أتصرف من منطلق الواقع وقدماي على الأرض. فأنا أعمل بمداخل ذرائعية (براجماتية). وأنا أرى كثيرا من المزايا في الحوار وتسوية الخلافات. بينما هو يعلي من شأن المواجهات واستخدام القوة. وهذه وجهات نظر متخالفة.
عن أسلوبه الشخصي:
أنا لست إنسانا محبا للغو. ولا أنخرط بصدق في اللغو. ويغلب على ظنّي أن الناس في مكتبي يعلمون ذلك. ولكن على أية حال، في بعض الأحيان، عندما أكون مع بعض الأصدقاء المقربين، فإنني أظهر قدرا كبيرا من البذاءة والقدرة على اختلاق الفكاهة الساخرة والاستمتاع بها، لكن هذا لا يكون إلا مع أبنائي أو أصدقائي المقربين. فأنا شخص ذو خصوصية، بطريقة ما، أساسا. لقد اعتدت كوني شخصا خجولا جدا، وكبرت وبقيت شخصا خجولا جدا، وربما ما تزال بعض آثار هذا الخجل باقية إلى الآن.
[...]
عما إذا كان يحس بذنب ما يسمى بـ "متلازمة أعراض نوبل":
لا أدري ما إذا كانت زوجتي قد أخبرتك، وهذه حقيقة فعلا، بأنني لست منتبها إلى حقيقة أنني حاصل على جائزة نوبل. إنه شيء يبعث على الضحك – وذلك لأنني في ظني مستغرق تماما في أداء عملي في الوقت الحاضر. ويحدث في بعض الأحيان أن أقول: إنه يجب أن أقرص نفسي، وأقول: "إنك حاصل على جائزة نوبل"، ولكني لا أفعل. ربما بعد أن أتقاعد، سأصبح أكثر وعيا بهذه الحقيقة، ولكني الآن، مشغول بملف إيران، وملف كوريا، وعندي أناس يحتاجون إليّ إما أن أستأجرهم وإما أطردهم من الخدمة. وأنا أبذل جهدا لكي لا تنقل عني أجهزة الإعلام ما لم أقله. وإذا أحببت، ففي الحقيقة، لم يدخل في رأسي حصولي على نوبل بأي طريقة من الطرائق، بسبب أن حصولك في الحقيقة على جائزة نوبل للسلام يجعلك أكثر تواضعا. ولأنك كذلك تعلم أكثر ما الذي يجب عليك أن تبذله وتعلم كذلك كم أن السلام لا يزال بعيدا ...
[...]
عن كونك نيويوركيًا:
إنني أشعر بأنني في وطني حين أكون في نيويورك. إن نيويورك وطن بالنسبة لي: لقد عشت فيها خمسة عشر عاما. وما زالت نيويورك وطنا لي. إن لي فيها العديد من الأصدقاء، والكثير من الذكريات. وأنا أحب نيويورك، ليس بسبب ما تمثله، لكن بسبب أنها مجهود يبذل من أجل النظر إلى الصورة الكبيرة، وبسبب أنها تجسد كيفية التكامل وتعلم كيف نجتهد جميعا لكي نعمل معا، وننجح معا. إنها نظام تميّز. وليس مهما أبدا من أين أنت قادم. وأنت تجازى على قدر ما تملك من مزايا وعلى قدرتك على التسامح مع الآخرين. وهذا بالنسبة لي ما زال هدفا مراوغا لم نستطع بلوغه بعد. وأنت ترى أحيانا التعليقات على المدوّنات (الشنكبوتيّة) تقول: "إن اسمه محمد، وهذا يدل على كل شيء". إن هذا يجعلك تشعر أن هناك عملا كثيرا لم نقم به بعد، وعلينا أن نفعله.
والمعنى:
يعني هذا أنني بالفطرة منحاز، بسبب خلفيّتي، وهويّتي، وأصل ديني ... وهذا يظهر كيف أننا ما زلنا نقَوْلِبُ الناس. إلى أي حد عجزنا عن أن نصل إلى فهم أننا يجب أن نرتفع فوق هذه الانتماءات الضيّقة وأن نتطابق، ببساطة، مع بعضنا بعضا باعتبارنا كائنات بشرية.
عن وظيفته:
ليست هذه مهمة سهلة ... إنني أقابل أناسا في الشارع يقولون لي، "نحن معجبون بأنك تقوم بالمهمة التي لم يرد أحد آخر القيام بها". وهذه حقيقة. فإنك تقابل شخصا في الطريق، كما يحدث معي كثيرا، فيقول لك: "إنك تقوم بعمل الربّ" ويدفعني هذا للعمل لمدة طويلة، ويحدث هذا معي كثيرا. إنني ألقى مثل هؤلاء في المطارات، وأثناء مشيهم في الشوارع في بلدان شتى، ويقولون في الأساس، "نشكرك لقيامك بالعمل الذي تؤديه، ولأنك تقوم بعمل الربّ"، شيئا من هذا القبيل. وهذا يجعلك تشعر بشعور طيب.
[...]
بخصوص دوره المتميّز:
نحن نجلس ونصدر أحكاما، فتكون إما مذعنا، وإما غير مذعن. وهذا شيء متميّز جدا. والحكومات تكون ممتعضة من ذلك بشدة. فكيف يستأجرون شخصا ويدفعون له راتبا ثم يجيء هذا الشخص ليقول لهم: إن عليهم فعل كذا أو عدم فعل كذا، أو أسوأ من ذلك حتى أن يخبرهم عما إذا كان سلوكهم حسنا أو سيئا. وهذا الامتعاض موجود دائما خصوصا مع من يسمى "بالموظّف العالميّ". وأنت ترى ذلك في أماكن مختلفة، كيف يمكن لذلك "الموظّف العالميّ"، الإداري المعقِّد (البيروقراطيّ) أن يخبرنا علنًا بما يجب علينا فعله، ونحن قوة عظمى أو حتى ونحن بلد خاضع للتفتيش. وأنت يحدث لك هذا كثيرا: أنهم يختبرونك، يرعبونك، يحاولون مصادقتك ثم، في آخر النهار، يفهمون أنك ماضٍ قُدُمًا متمسكا بمبادئك. وأنك لست متأثرا بكرم ضيافتهم وأنك لست خائفا من تهديداتهم أو محاولاتهم إرعابك وتخويفك. فيبدءون ساعتها في الانصياع والتأدّب ولكن يجب عليك أن تمر بكل هذا. لقد مررنا بهذا في العراق، ومررنا بهذا في كوريا، وفي إيران – نحن نمر بنفس مراحل المعركة. الناس يحاولون أن يجربوك أولا، يحاولون أن يجربوا ما إذا كان يمكنهم أن يضموك إلى جانبهم، وما إذا كانوا يستطيعون إرهابك